في عالم الدراما التركية الذي طالما عُرف بمسلسلاته العاطفية الثقيلة وقصصه المليئة بالتراجيديا والميلودراما، بزغ نجم مسلسل مختلف تمامًا في الشكل والمضمون. مسلسل “Gibi”، والذي يُترجم إلى “كما لو” باللغة العربية، جاء ليقدّم نوعًا من الكوميديا العبثية الساخرة، خالية من التصنّع أو التكلّف، لكنها شديدة الذكاء والدقة في محاكاة الواقع.
منذ انطلاقه، أحدث هذا العمل صدى كبيرًا في تركيا، وأصبح حديث الشارع والمنصات الاجتماعية، حيث بات يُوصف بأنه “مرآة ساخرة للمجتمع التركي” و”أحد أنجح التجارب الكوميدية في تاريخ التلفزيون التركي الحديث”.
قصة بسيطة… لكن ليست عادية
في ظاهر الأمر، يبدو “كما لو” كمسلسل بسيط يدور حول حياة صديقين يعيشان سويًا في شقة متواضعة. لكن البساطة هنا خادعة. يلماز (فيياز يييت) وإلكان (كيفانش كلينتش)، لا يتركان فرصة إلا ويحولان أصغر المشاكل اليومية إلى معارك درامية ومواقف عبثية خارجة عن المألوف.
ينضم إليهما صديقهما الثالث إرسوي (أحمد كورشات أوتشالان)، ليشكّل الثلاثي سلسلة من المغامرات التي تبدأ دائمًا بمشكلة بسيطة: خلاف على طاولة، سوء فهم بسيط، أو حتى تعليق عابر… ولكن النتيجة دائمًا كارثية، وغالبًا ما تخرج عن السيطرة بطريقة مضحكة ومربكة في آنٍ واحد.
ما يميز الحلقات هو أنها مستقلة، أي أن كل حلقة تمثل قصة بذاتها، وهذا يمنح المشاهد حرية في المتابعة دون الحاجة إلى الالتزام بتسلسل الأحداث، مع الحفاظ على الترابط في شخصيات الأبطال وسلوكياتهم الثابتة.
عبثية محسوبة… ونقد اجتماعي لاذع
رغم أن الأسلوب يبدو تلقائيًا أو حتى مرتجلًا، إلا أن الكتابة في “كما لو” مدروسة بعناية شديدة. فيياز يييت، الذي يجمع بين التمثيل والكتابة، ينجح في تقديم شخصيات غير تقليدية وردود أفعال غير متوقعة، لكنه يفعل ذلك دون السقوط في فخ السذاجة أو التهريج.
هذا التوازن بين العبث والواقعية يجعل من كل حلقة تجربة فكرية قبل أن تكون مجرد عرض كوميدي. فكل موقف، رغم غرابته، يحمل في طياته نقدًا ساخرًا لمظاهر من الحياة التركية اليومية: البيروقراطية، العلاقات الاجتماعية، التنمر، الذكورية، التقاليد المبالغ فيها، والازدواجية الأخلاقية.
العبقرية هنا تكمن في أن المشاهد يضحك، لكنه يشعر بأنه ضحك على نفسه… أو على جارٍ له، أو على مشهد عاشه شخصيًا.
شخصيات لا تُنسى
نجاح “كما لو” لم يكن ليكتمل لولا الطاقم المتميز الذي أعطى الحياة لهذه الشخصيات الغريبة والمحببة في آنٍ واحد:
- فيياز يييت (يلماز): شخصية متناقضة، عنيدة، فلسفية أحيانًا وسخيفة في أحيانٍ كثيرة، يُعد المحرك الأساسي للأحداث.
- كيفانش كلينتش (إلكان): دائمًا ما يحاول التصرف بعقلانية، لكنه سرعان ما ينجر وراء الفوضى، مما يضيف بُعدًا كوميديًا ساخرًا لتفاعله مع يلماز.
- أحمد كورشات أوتشالان (إرسوي): الشخصية التي تظهر من وقت لآخر لتكون “الضحية” أو “المشارك المتردد”، وغالبًا ما يقع في مرمى نيران يلماز وإلكان دون أن يعرف السبب.
كما يضم المسلسل عددًا من الممثلين الآخرين الذين أضافوا نكهة خاصة في أدوار ثانوية، مثل:
- إزجي آي (إسرا / لوكريتسيا) – في 7 حلقات
- جلال أوزتورك (برك / كوتالميش) – 6 حلقات
- عمران شاكر (عمران تركسوي) – 9 حلقات
- وغيرهم من الممثلين الذين قدّموا شخصيات عابرة لكن مؤثرة، ساعدوا في إبراز الطابع المتجدد والمرتجل للسلسلة.
مواسم المسلسل وعدد الحلقات
استمر “كما لو” لخمسة مواسم ناجحة، بإجمالي 70 حلقة، مقسّمة كالتالي:
- الموسم الأول: 10 حلقات
- الموسم الثاني: 13 حلقة
- الموسم الثالث: 13 حلقة
- الموسم الرابع: 13 حلقة
- الموسم الخامس: 21 حلقة
رغم أن المسلسل لا يتبع الخطوط التقليدية في تطور الشخصيات أو تصاعد الحبكة، إلا أن كل موسم يحمل طابعًا خاصًا وتطورًا واضحًا في التناول والأسلوب، دون أن يفقد روحه الساخرة.
ويتوفر المسلسل حاليًا عبر عدة منصات بث رقمي، أبرزها Plex، ما جعله متاحًا لجمهور واسع داخل وخارج تركيا.
أثره على الثقافة الشعبية
استطاع “كما لو” خلال سنوات قليلة أن يتحول إلى ظاهرة ثقافية. أصبح الجمهور يكرر جُمل يلماز وإلكان في الحياة اليومية، وتحولت بعض المواقف إلى “ميمز” (memes) تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي. النقاد وصفوه بأنه “انعكاس ساخر لمجتمع لا يملك الوقت للتفكير في عبثية حياته اليومية“.
كما لعب المسلسل دورًا في إعادة تعريف الكوميديا التركية، مفسحًا المجال أمام أعمال جديدة تستوحي من أسلوبه، بل وحتى حفّز كتّابًا شبابًا على تقديم مشاريع تعتمد على الكوميديا السوداء والسيناريو المفتوح.
ختامًا: ضحك من نوع مختلف
“كما لو” ليس مجرد مسلسل لتملأ به وقت فراغك. إنه تجربة فكرية مغلفة بالضحك، تُقدّم نقدًا عميقًا بطريقة خفيفة، وتمنحك لحظات من التأمل في سلوكياتك اليومية من خلال مرآة ساخرة. إنه دعوة لإعادة النظر في “تفاهة الأشياء” التي قد تتحول، إن لم ننتبه، إلى دراما عبثية مثل تلك التي يعيشها يلماز وإلكان كل يوم.
في عالم يزداد جدية وثقلاً… “كما لو” هو استراحة ذكية تذكّرك بأن الضحك لا يأتي دائمًا من النكات، بل من الواقع نفسه… حين ننظر إليه كما لو أنه لا يُصدق.