“السينما برؤية شرق أوسطية: كيف تُحكى قصصنا في أفلام عالمية؟”

في خضم عالم السينما العالمية، تبرز الأفلام التي تحمل طابعًا شرق أوسطيًا كجسور بين الثقافات، وأحيانًا كمواجهات بين الواقع الأسير والخيال المتمرد. هذه الأفلام لا تكتفي بسرد القصص؛ بل تُبدع في فضاء الهوية، الصراع، الذكريات، وأسئلة الانتماء. في هذا التحقيق، نستعرض مجموعة من أبرز الأفلام التي تتناول موضوعات من الشرق الأوسط — من الحروب إلى الدراما العائلية إلى الرسوم المتحركة — ونحاول فهم كيف تحولت هذه الأفلام إلى مِرآة للعالم العربي وللعالم من وجهة نظر شرق أوسطية.

الحروب والصراع: السرد الأسلحوي كواجهة للتاريخ والذاكرة

The Hurt Locker

فيلم أمريكي من إخراج كاثرين بيغلو (2008)، يركّز على وحدة إزالة المتفجرات في العراق. بعيدًا عن البطولات الضخمة أو المعارك الكبرى، يتماهى الفيلم مع بُعد نفسي: كيف تتراكم الضغوط على الجندي، وكيف يصبح الانفجار ليس حدثًا بل نمط حياة يعاتبك باستمرار.

Zero Dark Thirty

يستعيد هذا الفيلم عملية البحث المطوَّلة عن أسامة بن لادن بعد هجمات 11 سبتمبر 2001. في سياق يصل إلى كل زاوية من السياسة، الأمن، والتجسس، يرسم الفيلم خريطة واقعية لمسارات القرار، المعلومة، والتكلفة الإنسانية.

American Sniper

مقتبس من حياة كريس كايل، القناص الأمريكي الذي خدم في العراق. يعرض الفيلم صراع الفرد مع الحرب، والأنقاض التي تظل في الذهن بعد العودة إلى الوطن، وكيف تُحوّل القوّة العسكرية إلى عبء نفسي.

Argo

دراما سياسية مبنية على أحداث واقعية، تؤرخ لحادثة احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية بطهران (1979–1980). الفيلم يُظهر كيف تمت لعبة الدبلوماسية والخداع كوسائل مقاومة غير تقليدية في خضم أزمة الشرق الأوسط.

Paradise Now

فيلم فلسطيني يناقش فكرة “الفدائي” من داخل الإنسان، من داخل علاقات الصداقة والانتماء. يتتبع مسارين لصديقين يُجنَّدان لعملية تفجير انتحارية، في لحظة توتر متصاعدة بين الإيمان، القلق، والشقوق الأخلاقية التي يعيشها الشاب الفلسطيني اليوم.

الدراما والتعليق الاجتماعي: قصص من القلب إلى الشاشة

Wadjda (وجدة)

ربما هذا الفيلم يُعد علامة فارقة في السينما السعودية، إذ هو أول فيلم يُصوَّر بالكامل داخل المملكة، وأول فيلم روائي من إخراج امرأة سعودية، هيفاء المنصور. (“Wadjda is the first full-length feature film shot entirely in Saudi Arabia”) (Wikipedia)
يُروى الفيلم قصة فتاة تبلغ من العمر 10 سنوات، تسعى لامتلاك دراجة هوائية — وهو أمر يُعدّ خرقًا للتقاليد في مجتمع يرى أن ركوب الفتاة للدراجة يشوّه سمعتها. (princesscinemas.com)
الاستثناء الذي صنعه الفيلم: تصوير بسيط، صراع يومي، رموز اجتماعية تخرج من الظلال لتواجه ما هو مفروغ منه في الحياة السعودية، والقضية ليست فقط دراجة، بل كرامة، حرية، والرغبة في أن تُصغي لك الطفلة وتُمنح الفرصة لتكون.

A Separation (الانفصال)

دراما إيرانية من إخراج أصغر فرهادي، تراهن على تفاصيل الحياة: زوجان يقرر أحدهما الهجرة، والثاني يبقى، لكن الأزمات الأسرية تبدأ حين يُطلب من الزوج أن يعتني بأبوه المريض. أمور تتصاعد وتنكشف الطبقات الاجتماعية والدينية والقانونية. الفيلم لمْ يكن مجرد عرض درامي بل جسر بين الشرق الغامض للغرب، ومنحه جمهورًا عالميًا.

Capernaum (كفرناحوم)

فيلم لبناني يُخرج إلى العلن ما تختبئه الزوايا المحرومة: طفل يُقيم دعوى قضائية ضد والديه لأنه لم يختَر أن يُولد في حياة مليئة بالفقر والمعاناة. الفيلم يُرصد المدينة اللاهثة، الشوارع التي تلهث. تقديم قاسٍ لكنه ضروري للصوت الذي يُنطق ما غُيّب.

The Kite Runner (عدّاء الطائرة الورقية)

مأخوذ من رواية خالد حسيني، يحكي قصة طفلين من كابُل تربّيا سويًّا، لكن الانقسامات العرقية والسياسية تجرفهما. الفيلم يستعرض أفغانستان قبل الحرب، خلالها، وبعدها — رحلة شخصية تشبه رحلة بلد ينهار ويحاول أن يعيد بناءه من بين الذكريات.

Persepolis (برزخ/بيرسِبوليس)

رسوم متحركة واقعية سردت سيرة حياة مارجاني سطرابي في إيران قبل الثورة وبعدها، وهي تحكي الصدام بين الفرد والسلطة، بين الحرية والقيود، بين الهجرة والاحتفاظ بالجذور. القدرة على الدمج بين الأسلوب البصري والصدمة التاريخية جعلت Persépolis واحدًا من أهم الأفلام ذات البعد الثقافي العالمي.

Under the Shadow (ما تحت الظلال)

رعب سياسي بامتياز، يضعك في طهران زمن الحرب العراقية–الإيرانية، حيث الأم تحاول حماية ابنتها من شبح خارق وسط دوامة الحرب. الفيلم يجمع بين ما يُسمَّى بـ “الرعب الفلسفي” وما تحمله الحرب من رعب حقيقي، بحيث تنعكس الأشباح كمجاز للخوف الذي يختلج في القلب.

ألوان أخرى: التجريب، الوثائقي، والغربة البصرية

Waltz with Bashir (رقصة مع بشير)

فيلم رسوم متحركة إسرائيلي يستدعي ذكريات حرب لبنان 1982، لكن ليس مجرد سرد تاريخي — بل هو رحلة في الذاكرة، في الثغرات التي تركتها الحرب في العقل، كيف ننسى، كيف نعلّق الصدمة. الإنهماك البصري يتداخل مع التاريخ الشخصي والوطني.

Kedi (القطة إسطنبولية)

وثائقي تركي عن القطط التي تسير في شوارع إسطنبول، لكنها في الظاهر بسيطة — لكنه عمل يعكس المدينة، الحياة اليومية، وجزءًا من ثقافة البشر التي ترافق تلك القطط وتُعانقها في الأزقة.

A Girl Walks Home Alone at Night (فتاة تمشي وحدها في الليل)

“واسم الغرب” مصاغ بطريقة شرق أوسطية: مصاص دماء إيرانية تجوب شوارع مدينة فارسية خيالية، تجمع بين noir، رعب، وتأمّل في الهوية النسائية تحت ظل الضياع. استُخدم الأبيض والأسود بذكاء لتكثيف الحالة، والحدود بين الجنس، الزمن، والشر تُمحى.

The Salesman (البائع)

فيلم إيراني آخر لفرهادي، يحكي عن زوجين يعملان بمسرحية “موت بائع متجول” حين تتعرض الزوجة لاعتداء. كيف يتعامل الزوج معها؟ كيف يُرَد الاعتبار؟ فيلم يعيد النقص إلى مستوى إنساني بحت — كيف تُصدَم الثقة والكرامة داخل البيت والمجتمع.

لماذا تؤثّر هذه الأفلام؟

1. أن تكون مرآة داخلية — لا مرآة سياحية

ليست أفلام الشرق الأوسط الموجَّهة إلى الجمهور الغربي مجرد لوحات “شرقية” تُعرض كفضول. كثير منها يُولَّد داخل الواقع، ينقل التوتر الداخلي، الشكوى، الخوف، والتشاؤك، إذ يكون المشاهد “من الداخل” لا مجرد زائر.

2. التقاطع بين العالمي والمحلي

الموضوع “الإنساني” — الأم، الطفل، الحب، الخيانة، الخوف — موجود في كل مكان. لكن في هذه الأفلام يُطبَع بلهجات محلية، بملامح لم تُرَ كثيرًا (أزقة، قُرى، سجون منشأة، حصار نفسي). هذا التجانس بين الكلي والمحلي هو ما يجعلها تصل إلى قلوب متعددة.

3. شجاعة الحكي وسط الخطر

بعض هذه الأفلام عُرضت في دول تُقيَّد فيها حرية التعبير. لكن مخرجيها تكبَّروا المخاطر لصالح القول، لصالح الانتقال من الكتمان إلى الصراخة الهادئة، لمنح بُعدٍ بصري ما يحصل خلف البوابة أو الجدار.

4. تجريب بصري وسردي

العديد منها لا يسير بخط مستقيم: الاسترجاعات، الحوارات غير المباشرة، الانقطاعات الزمنية، المزج بين الواقع والرمز. مثلاً Waltz with Bashir يستخدم الرسوم المتحركة كنافذة إلى اللاوعي، و Persepolis تجمع بين البساطة الرسومية والعمق العاطفي.

التحديات التي تواجه الأفلام ذات الطابع الشرق أوسطي

  • الرقابة والقوانين السياسية
    بعض الحكومات تفرض رقابة صارمة، أو تمنع عرض الأفلام التي تحمل رسائل سياسية صريحة. المخرج قد يُجبر على تعديل مشاهد أو حذفها أو تنقيحها لتمرّ من القنوات الرسمية.
  • التمويل والتوزيع
    الأفلام التي تُصوَّر في الشرق الأوسط غالبًا تعتمد على دعم خارجي أو شراكات دولية، لأن الإنتاج المحلي قد يفتقر لإمكانات ضخمة أو بنى تحتية قوية.
  • الوصول إلى الجمهور العالمي
    على الرغم من الجوائز المرموقة، ليس كل فيلم يتمكن من الدخول في منصات البث العالمية أو الترجمة الجيدة، مما يحدّ من انتشاره خارج الدوائر السينمائية المتخصصة.
  • التوقعات القوالبية
    كثير من الجمهور الغربي يتوقع “قصص معاناة الشرق الأوسط فقط” أو “حول الحرب والنزاع”. هذا التصنيف يضغط على المخرجين لتقديم موضوعات معينة، وليس دائمًا ما يعكس التنوع الحقيقي في التجربة الإنسانية في المنطقة.

في الختام: لماذا نحتاج أن نشاهدها؟

ليس لأنها من الشرق الأوسط فقط، بل لأنها:

  • تُعلّمنا أن العالم لا يُقرأ عبر زاوية واحدة، وأن هناك قصصًا تُحكى من الداخل.
  • تُقدّم رؤى في التاريخ، الهوية، والعلاقة بين الفرد والمجتمع — ليست تجميلًا بل كشفًا.
  • تمثّل مساهمة فنية في تنويع التفكير السينمائي، وتكسر فكرة “من يتكلّم عنا” إلى “من يكلّمنا نحن”.
  • تمنح المشاهد هاجسًا بأن السينما ليست ترفيهًا فقط، بل سلاح ثقافي: لحكاية تُروى، لضمير يُوقظ، لشيء يُصبح ذا أثر بعد العرض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top