في صباح ربيعي مشرق في الرياض، افتُتِحت إحدى دور السينما الجديدة بصالة عرض عصريّة، حيث يصطف الجمهور من مختلف الأعمار منتظرًا أحدث الأفلام المعروضة. قد لا يشعر الكثيرون في تلك اللحظة بأنهم جزء من تحولٍ كبير يشهده قطاع الثقافة والإبداع في المملكة العربية السعودية، لكن الأرقام في تقرير “صناعة الأفلام السعودية 2024” تُثبت أنهم في قلب مشهد يتغيّر بسرعة، وصار للسينما أيضاً، شأنها شأن النفط أو السياحة، أن تكون رافدًا اقتصاديًا واستثمارًا ثقافيًا.
التقرير الذي أصدرته هيئة الأفلام السعودية في عام 2025، ويُعنى بأداء صناعة الأفلام خلال 2024، لا يناقش الأعداد فحسب، بل يرسم خارطة طريق للتحوّل، ويكشف كيف صارت السينما جزءًا لا يتجزّأ من رؤية السعودية 2030، ورافدًا لتحقيق الأهداف الاقتصادية، الثقافية، والتنموية.
من الرؤية إلى الواقع: كيف بدأت القصة؟
منذ صدور رؤية 2030، اتُخذت خطوات جريئة لإحياء السينما: رفع الحظر عن دور العرض في 2018 كان نقطة الانطلاق التي فتحت آفاقًا لقطاع ظلّ لسنوات هامشيًا. لكن الأمر لم يقتصر على فتح دور العرض، بل شمل بناء البُنى التحتية الجديدة، تشريعات داعمة، وتمويلًا يُلبي طموحات المبدعين.
هيئة الأفلام، من جهة، أطلقت برامج مثل دعم الإنتاج المحلي، الحوافز المالية للاستثمار، والمهرجانات، ومنها مهرجان البحر الأحمر السينمائي، وسعت إلى الشراكات الدولية، واستقطاب الإنتاجات العالمية لتصوير مشاهد داخل السعودية، ما يُعزز ليس فقط حضور الاسم السعودي على الساحة، بل يحول المملكة إلى وجهة للإنتاج السينمائي.
أرقام 2024: ماذا تخبّئ السينما وراء التذاكر والأرباح؟
إليك أبرز البيانات التي أورده التقرير، ومعانيها:
المؤشر | الرقم في 2024 | ملاحظات وتحليل |
---|---|---|
إيرادات شباك التذاكر | 845.6 مليون ريال سعودي (~225.42 مليون دولار) (BroadcastPro ME) | رغم أنها أقل من سنوات الذروة السابقة (2022 بـ 937 مليون، و2023 بـ 922 مليون)، إلا أن الرقم يُظهر استقرارًا جيدًا في سوق سينمائي نامي. (saudigazette) |
عدد التذاكر المباعة | حوالي 17.5 مليون تذكرة (saudigazette) | يشير إلى جمهور كبير ومستمر في الحضور، حتى مع انخفاض أو تثبيت الأسعار في بعض القاعات. |
متوسط سعر التذكرة | 48.2 ريالًا سعوديًا (Saudi Streets) | انخفاض الأسعار ساهم في الوصول إلى جمهور أوسع، وما زال السعر المتوسط مناسبًا لمن يريد حضور العروض. |
عدد الأفلام المعروضة | 504 فيلمًا (Saudi Streets) | التنوع في العروض: أفلام من بلدان متعددة، وأنواع مختلفة، ليس فقط الإنتاج المحلي. |
الأفلام السعودية | 17 فيلماً محليًا حقّقت مجتمعة 76.6 مليون ريال من مبيعات حوالي 1.8 مليون تذكرة (Saudi Streets) | هذا أداء محلي متنامٍ؛ الجمهور بدأ يعوّل على المحتوى المحلي أكثر، رغم أن الحصة لا تزال صغيرة مقارنة بالإنتاج الأجنبي. |
حصة الإنتاج الأجنبي | أفلام هوليوودية تسيطر على الحصة الكبرى من الإيرادات بـ حوالي 58.5٪، تليها الأفلام المصرية بـ 25.1٪، ثم السعودية (~7.8٪) (saudigazette) | هذا يعكس أن المنافسة لا تزال كبيرة أمام الإنتاج العالمي، لكن الحضور المحلي يُحرز تقدّمًا. |
الرقى الجغرافي | 64 موقعًا سينمائيًا، 630 شاشة عرض في 10 مناطق من المملكة (saudigazette) | التوزيع الجغرافي والتحسين في البنية التحتية عامل أساسي في زيادة الوصول والجمهور. |
أنواع الأفلام والأنماط | أفلام الحركة وجدت صدى كبيرًا، يليها الكوميديا، الأنيميشن، ثم التريند نحو أفلام متنوعة الجنس والمحتوى. (Saudi Streets) | الجمهور لا يكتفي بنمط واحد، ويبحث عن الترفيه بأنواعه. |
من هم الفائزون المحليون؟ أمثلة على النجاح
إذا كانت الأرقام تقدم صورة ككل، فإن أمثلة الأفلام السعودية الناجحة تُضفي وجهًا بشريًا على هذه الصورة:
- فيلم “مندوب الليل” (The Night Courier) حقّق إيرادات تُقدّر بـ 28.6 مليون ريال من أكثر من 620 ألف تذكرة، وهو من أعلى الأفلام السعودية تحقيقًا خلال العام. (saudigazette)
- فيلم شباب البومب حقّق أيضًا نجاحًا ملموسًا بإيرادات تبلغ 26.6 مليون ريال. (saudigazette)
هذه النجاحات مهمة ليس فقط لحجم الربح، بل لأنها تُثبت قدرة السينما السعودية على المنافسة داخليًا، وكسب ودّ الجمهور المحلي، وهو أمر لا يقل أهمية عن الإيرادات.
التحديات: ماذا لا تُخبئ الأرقام من صعوبات؟
رغم الأجواء الإيجابية، التقرير يُظهر عددًا من التحديات التي ما تزال موجودة:
- الاعتماد الكبير على الإنتاج الأجنبي
الإنتاج المحلي رغم نموّه ما يزال يشكّل حصة صغيرة من الإيرادات الإجمالية (~7–8٪). الجمهور ما زال يستهلك الأفلام الأجنبية، وهوليوود تسيطر على نصيب الأسد. هذا يضع ضغطًا على صناع المحتوى المحلي لابتكار قصص تروق للجمهور وتنافس من حيث الجودة. - تفاوت التوزيع الجغرافي
بعض المناطق مثل الرياض، مكة، والمنطقة الشرقية تحقّق أرقامًا ضخمة من الإيرادات، بينما المدن الأقل حضرية أو ذات البُنية التحتية السينمائية المحدودة لا تزال متخلّفة. الوصول إلى الشاشة، جودة الخدمات، وتنوع العروض قد لا تكون متكافئة في جميع المناطق. - انخفاض أسعار التذاكر
القرارات الحكومية لتخفيض رسوم التراخيص أو أسعار التذاكر هي خطوة إيجابية لتوسيع الجمهور، لكنها قد تقلّل من هوامش الربح لبعض دور العرض أو المشاريع الصغيرة، وقد تؤثر على استدامتها إن لم تُعوَّض من زيادة الإقبال أو دعم تشجيعي. - الإنتاج المحلي يحتاج جهداً أكبر
ليس فقط من الناحية المالية، بل من حيث الكتابة الجيدة، التنوع في المواضيع، اللغة، جودة التصوير، التسويق المحلي والدولي، التوزيع، الدبلجة أو الترجمة إن لزم الأمر للوصول للأسواق الخارجية.
كيف تدعم الحكومة والبنية التحتية النمو؟
التقرير لا يكتفي بتسجيل الأرقام، بل يستعرض كيف أن البيئة التنظيمية والدعم المؤسسي لعبا دورًا حاسماً في هذا التحول:
- الحوافز المالية: برامج مثل “رداد الاستثماري” بحيث أن بعضها يُمنح استرجاعًا ماليًا يصل إلى ما نسبته 40٪ من نفقات الإنتاج داخل المملكة، ما يُشجّع الإنتاج الداخلي ويخفض من كلفة الإنتاج. (Asharq Al-Awsat)
- البنية التحتية: عدد الاستوديوهات، وجود مراحل تصوير معزولة صوتيًّا، شركات الإنتاج والتوزيع المحلية، ودور السينما الموزعة جغرافيًا. كل هذا يُسهّل تنفيذ المشاريع. (Asharq Al-Awsat)
- التشريعات والتنظيم: تسهيل تراخيص الإنتاج، تقليل الرسوم، إصدار التراخيص بسرعة أكبر، وهذا من شأنه أن يخفف من البيروقراطية ويجعل البيئة أكثر جذبًا للمستثمرين المحليين والدوليين. (Asharq Al-Awsat)
- تنمية المواهب: البرامج التدريبية، مهرجانات الأفلام، ورش العمل، دعم الكتاب والمخرجين والفنيين، إضافة إلى فرص لتأسيس علاقات دولية في الإنتاج والعرض والمشاركة في المهرجانات. (Asharq Al-Awsat)
رؤى للمستقبل: إلى أين تتجه السينما السعودية؟
بالنظر إلى ما ورد في التقرير ومن خلال تحليل مسار السنوات الأخيرة، يمكن التنبؤ ببعض الاتجاهات التي قد تشكّل مستقبل السينما السعودية:
- زيادة إنتاج المحتوى المحلي
مع تحسّن البنية التحتية ودعم مالي أكبر، من المتوقع أن يرتفع عدد الأفلام السعودية التي تُنتج سنويًا، وأن تتحسّن جودتها لتنافس الإنتاجات الأجنبية ليس فقط داخليًا بل على الساحة العربية والعالمية. - تنوع النوعيات والموضوعات
الجمهور يريد محتوى متنوعًا: أفلام درامية، كوميدية، ذات طابع محلي عميق، وثقافية، وأيضًا أفلامً تستكشف تجارب الناس اليومية، التاريخ، الهوية. تجريب أكثر في نوعيات غير مألوفة قد يُوسّع من قاعدة المشاهدين. - استقطاب الإنتاج الأجنبي للتصوير المحلي
السعودية تُوفر مناظر طبيعية فريدة، تكاليف منافسة، تسهيلات تشريعية. هذا يُعد فرصة لجذب الإنتاجات العالمية الكبيرة للتصوير داخل المملكة، ما يعزز من الخبرة المحلية ويوفّر فرص عمل. - توسع دور السينما في المناطق الأقل حضورًا
بناء دور عرض جديدة في المدن الصغيرة، وتحسين الخدمات، وتسويق محلي موجه، وهذا من شأنه أن يزيد من الإيرادات الوطنية ويوسّع الجمهور الثقافي. - الاقتصاد الإبداعي كمكوِّن أساسي
السينما ليست فقط ترفيهًا، بل رافد اقتصادي: وظائف، إنتاج، تسويق، عقود، صادرات ثقافية، جذب استثمار. إن تكاملها مع القطاعات الأخرى كالسياحة، الفنون، التصميم والموسيقى سيُعزز من قيمتها الاقتصادية.
لماذا تهم هذه الأرقام القارئ والمواطن؟
- لأنها تُظهر أن مشاريع رؤية 2030 ليست شعارات فقط، بل تُترجَم إلى أفعال تُحدث تحولًا في الواقع.
- لأنها تعني أن خيارات الترفيه والثقافة أصبحت أقرب إلى المواطن — ليس فقط في المدن الكبيرة بل في مناطق متعددة.
- أنها تُعطي الأمل لمن هم مهتمون بالعمل في الفيلم: مخرجين، ممثلين، تقنيين، كتاب، تسويق فني. الفرص تكبر، والجودة المطلوبة ترتفع، مما يدفع المهنيين المحليين للارتقاء.
- أنها تلخّص رسالة مفادها أن القوة الناعمة للمملكة — من خلال الثقافة، الفن، الصورة — هي جزء لا يتجزّأ من هويتها الجديدة، ومن قدرتها على السرد والعرض العالمي.
خاتمة: هذه مجرد البداية
إذا كان 2024 قدّم لنا “لحظة الانطلاق” الصحيحة للسينما السعودية، فإن السنوات التي تليه قد تكون سنوات البناء الحقيقية: بناء الإنتاج، بناء الموهبة، بناء العلامة السعودية في ساحة السينما العالمية.
التقرير السنوي يُؤكّد أن الفيلم السعودي صار يُنتَج، يُشاهَد، يُناقَش، ويُحتفى به. ليس لأننا حلمنا فقط، بل لأننا عملنا، استثمرنا، ووضعنا القواعد.
قد لا تكون الساحة مكتملة بعد، لكن ما تم إنجازه حتى الآن يُعدّ أساسًا صلبًا لبقية البناء. المشاهد السعودي، العربي، والدولي ينتظر المزيد من الأفلام التي تنسج هويتنا، تحكي قصصنا، تُعبّر عن خصوصياتنا. والسؤال ليس إن كان سينماؤنا ستكبر، بل أيّ الأفلام ستكون هي التي تُكتب تاريخها من الآن فصاعدًا.